تقف الجدة "صادقية" على قمة الجبل المتاخم لقرية "عصيرة"، تستنزل اللعنات بالقرية التى تركت الشرف، وقتل رجالها من لاذ بهم محتميا فيهم، منتهزين فرصة انشغال الجدة الحكيمة والعرافة القديرة بموت ابنها الشيخ حاكم القرية ورئيس رجالها.
"صادقية" هى شريكة الحكم، أرملة الشريف مشارى الذى يعتز به اخوالها الجن، وهى الأم والكاهنة التى تتلخص فيها سمات الأمهات القدامى كما تذكرهم كتب الحضارات والأنثربولوجى التى تحلل قيام الحضارات الأولى، التى اتسمت بقيامها على أكتاف مجتمعات "أمومية".
فالمجتمع الذى يرسمه "يحيى امقاسم" فى روايته "ساق الغراب – الهَرَبَة " الصادرة عن منشورات الجمل، هو مجتمع أمومى بامتياز تتصل فيه المرأة بالأرض. هو مجتمع يحتفل بالحياة، ويغزل من أساطيره منهج وأسلوب فى ممارستها، ويسلم قياده للعارفين وأصحاب العلم.. رجالا كانوا أم نساء.
فى مجتمع القرية الصغيرة "عصيرة" استمر جيل الأم والأبناء فى مقاومة سيطرة الإمارة الجديدة الناهضة فى الأراضى الحجازية، تلك الإمارة التى عضدت ملكها ومكنت له عبر "المقرئين" أو الشيوخ المتشددين الذين "جردوا العيش من الحياة"، ومكنوا برؤيتهم الخاصة للإسلام من ملك "إمارة"، سعت للسيطرة على الأراضى الممتدة من جنوب الشام إلى المنطقة الشمالية لليمن" صارت بعد نجاحهم هي المملكة العربية السعودية"، عبر حروب قبلية عدة فى بدايات القرن العشرين.
يستعيد "يحيى أمقاسم" فى روايته تراث وأساطير قريته التى أبعد عنها (يحيا حاليا خارج المملكة العربية السعودية لمعارضته لنظام الحكم هناك)، والواقعة فى منطقة ساق الغراب بشمال اليمن، والتى جرى ضمها للمملكة العربية السعودية بعد تغيير كافة التقاليد وأسايب الحياة التى عايشتها القرية لما يزيد عن مئتى عام.
ويقر الكاتب فى تقديمه للرواية على موقعه الشخصى أنه استند فى هذا التأريخ الروائى، لحكايات شفاهية تناقلها أبناء قريته المبقين على تراثهم القديم، فى محاولة منه لرصد تلك الذاكرة الموشكة على الرحيل، والتى تنقل حكايات مجتمع صغير يحتفى بالحياة ويبذرها أينما ارتحل.
المجتمع فى القرية الصغيرة التى تحكمها "صادقية" وولدها الشيخ، مجتمع زراعى تملك فيه النساء وتعملن، يخرجن فى مواسم البَذْر والحصاد، كى يملئن الأرض خيرا. يدركن المواسم وأساليب الزراعة، ويستأثرن بأعمال بث الحياة.. يتصلن بالأرض التى تشبههن فى حملها للبذور فى الرحم، ويحظر على غيرهن أن يمد للزروع الوليدة يدا للقطاف.
هذا المجتمع المحتشد بالرقص والغناء ومباهج الاحتفال بكل فعل للحياة، يتغير ما إن يصل القرية "المقرى"، ذلك الشيخ الذى حرم على النساء الخروج، فوصمهن بالنجاسة والنقص، وحبسهن تنفيذا لأوامر ربانية يراها.
"المقرى" مبعوث الأمير، استطاع أن يخضع القرية لسلطان من أرسله، أهان الجدة التى أخذت الحكمة عن أخوالها من الجن، وقاد القرية للبوار. فضاع الشرف وبارت الأرض، وبارت معها أرحام النساء، لتصرن حرثا لأتباع المقرى الذين انتشروا فى القرية ليبدلوا شكل الحياة فيها بعد أن رحل عنها بالموت يأسا رجالها الأقدمين.
تتنقل الرواية بين أساطير للموت والحياة والحب الذى يموت غالبا قبل أن يولد، والذى حرمت عليه الحياة بوصول المقرى وأتباعه. وتستمر فى سرد ما أحاط بالقرية من تقلبات شهدتها الجدة "صادقية" التى اجتمعت لديها أساطير ومعارف القرية فى كتابها الذى تحفظه فى قلبها، فى رحلة بحثها عن خليفة لها تحمل فى قلبها العلم والسر.
ينتصر امقاسم فى نهاية روايته للأمل فى بقاء الحياة، ببقاء الحفيدة "شريفة" قابضة على قيم عائلتها، مستشرفة مستقبلا تكون فيه الأرض ملكا لمن اتبعوا مذهب أبناء "عصيرة" فى الحياة.
**محمد امقاسم كما فهمت يعتز بلهجة اجداده الذين يقلبون لام التعريف ميما ،،