مفهوم جدا أن "بولينا" بدت لزوجها
مجنونة ومختلة، الطبيب الباسم ذو الصوت الهادئ لطيف المعشر الذي التجأ لبيت الزوجين
لا يمكن أن يكون ضابط مغتصب، انتهك جسدها مرارا لأشهر متصلة، فقط لأنها جرؤت على
معارضة النظام.
تقول بولينا أنها عرفت مغتصبها من صوته، ففي
كل لحظات تعذيبه وانتهاكه لها كانت معصوبة العينين، لم تقدم بولينا دليلا يراه زوجها
مقنعًا، فلم يصدقها واعتقد أن إصرارها مجرد امتداد للحظات اختلالها المتولدة عن
تعرضها للتعذيب. نعم هي تعرضت للتعذيب، يعرف هذا، ومن حينها تتصرف بغرابة فلابد أن إدعائها أنها
تعرفت على مغتصبها مجرد إدعاء مجنون آخر.
من هذه المعضلة المحورية تمتد مسرحية "
الموت والعذراء" Death
and the maiden للكاتب الامريكي آرييل دورفمان. المسرحية التي
تدور أحداثها في دولة لم يسمها المؤلف لكنها خاضعة للحكم العسكري، تعاني فيها
البطلة لمجرد أن تثبت لأقرب الناس إليها أنها تعرضت للظلم والانتهاك على يد ضابط مغتصب
تعرفه معرفة اليقين. لكنها تواجه أيضًا انتزاع قدرتها على تقديم دليل يقنع القاضي
والحَكَم، الذي تواطأ مع جلادها لترضيتها باعتراف " مكذوب" للخلاص من
"فورة جنونها".
بعد أيام من أحداث محمد محمود 2011 أعلن
المستشار "جمال الدين القيسوني" رئيس محكمة جنايات القاهرة حيثيات حكمه
ببراءة أمين الشرطة "صبحي عبدالوهاب اسماعيل" وشهرته "أبو صدام"
من تهمة قتل المتظاهرين أمام قسم الزاوية الحمراء. قال المستشار في الحيثيات التي
تلاها: إن رجال الشرطة كانوا يدافعون عن أنفسهم ضد بلطجية مسلحين.
يومها لم يلتفت أحد للنص الذي قالت فيه
المحكمة: " إذا ثبت أن المتظاهرين كانوا يحملون الأسلحة والمولوتوف لمهاجمة
أفراد الشرطة، فيكون لرجال الشرطة الحق في الدفاع عن أنفسهم". بنت المحكمة
حكمها بالبراءة على افتراض لم تتمكن من إثباته، ورغم ذلك كان حكمها يقينيًا تأسست
عليه بعد ذلك 103 أحكام توالت بالبراءات
لضباط وأمناء الشرطة، الذين تتعدد الأدلة التي تثبت قيامهم بقتل المتظاهرين غير
المسلحين بعيدًا حتى عن الأقسام.
لم تحتج المحكمة إلى أدلة لتبرير حكمها
المنبني على افتراضات، واستبعدت الفيديوهات التي تثبت عدم تسليح المتظاهرين.
واليوم 29 نوفمبر 2014، قبل يوم واحد من موعد احتفال "أبو صدام" بالذكرى
الثالثة لبراءته، أصدرت محكمة جنايات القاهرة نفسها برئاسة المستشار "محمود
الرشيدي"، حكما ببراءة مبارك وحبيب العادلي ومساعديه الستة من القيادات الأمنية
التي أشرفت على قتل المتظاهرين من غرفة عمليات وزارة الداخلية طوال أيام الثورة.
وكما
هيأت الدعاية الإعلامية المكثفة المستشار "القيسوني" لتبرئة أمين الشرطة،
استجابة لما ردده إعلاميون مقربون من نظام مبارك ثم من المجلس العسكري متهمين الثوار
بالنزوع للعنف ومهاجمة الأقسام بغية إسقاط الدولة، أظهرت حيثيات حكم الرشيدي
ببراءة مبارك ورجاله إيمانه التام بما تردده وسائل الإعلام وإعلامييها المقربين من
مبارك ثم المجلس العسكري ثم السيسي، بأن حماس والإخوان المسلمين هم من قتلوا
المتظاهرين في الثورة، التي هي مؤامرة بين مؤامرات حروب الجيل الرابع.
الحَكَمُ إذن لا يرضى بأدلة بولينا ولا تأكيداتها،
العلامات المرسومة على جسدها من أثر التعذيب، ومهبلها الذي تستقذره منذ أقحم الضابط
عضوه فيه، لا تكفي جميعها للتصديق. ما يعرفه الحكم أن المغتصب لطيف المعشر، وأنه
يبدو وطنيًا يدافع عن كرامة المؤسسات ويحفظ استقرار الدولة المهدد. وأن هناك
الكثير من المؤامرات تحاك ويقين الثوار الشرفاء المتآمرين على الدولة بقيام حكام
الدولة بقتل زملائهم وإفساد البلاد، وما قدموه من أدلة وفيديوهات وأوراق ومستندات،
غير كافية جميعها لإدانة القاتل.
لم
تجد بولينا بُدًا من أن تمسك بالسلاح تهديدا وطلبًا لاعتراف بالانتهاك الذي وقع.
لم تستهدف من إمساكها بالسلاح قتل مغتصبها، لكنها دفعت به إلى طرف الهاوية، صدق
المغتصب في لحظة أن حياته رهن بقول الحقيقة، فَخَرّ معترفًا. ألقت بولينا بالسلاح
ونظرت لأقرب أهلها الذي لم يصدقها، وكلاهما يعرف أن الحياة بينهما بعد الآن.. لن تعود أبدًا
كما كانت.