بحثت بعض الوقت في النظريات الاعلامية التي درستها حول طرق توجيه الرأي العام والسيطرة عليه فلم أجد من بينها نظرية تتحدث عن هذا الذي اسميه ركام إعلامي.
منذ بدء الثورة وأنا مبهورة بكون المبادئ السبعة التي وضعها جوبلز للسيطرة على الرأى العام خلال الحرب يتم تطبيقها بحرفية شديدة من قبل وسائل الإعلام، ومع إيماني التام الذي لم يتزعزع بعشوائية العمل الإعلامي في مصر، تزايدت دهشتي وأنا أجد وسائل الإعلام -الخاص منها والحكومى- تمارس جميعها وسائل السيطرة والتوجيه لصالح السلطة بكفاءة شديدة، منبعها بالأساس هو تلك العشوائية التي تنتهجها تلك الوسائل كما سبق وذكرت هنا
ولكن الركام الإخباري هو وسيلة عظيمة تنتهجها وسائل الإعلام في مصر (عن غير وعي أو تخطيط منها في اعتقادى لأسباب سأورد بعضها حالا) وقد أفادت تلك الوسيلة كثيرا في تحقيق عدة أهداف، أخالها لدي السلطة عن وعي وسبق إصرار
نحن طوال الوقت حتى كمحررين صحفيين غارقين في طوفان من الأخبار المنقوصة والمجتزأة، نحن (المحررين الصحفيين) مسئولون مسئولية شبه كاملة عن نقصانها وعدم اكتمالها
فالآن ومع المنافسة الشديدة بين الصحف ووسائل الإعلام خاصة مع اعتماد معظم الصحف المصرية المقروءة على (بوابات إخبارية) هى ليست كذلك أصلا بالمفهوم المهني، صار تصدير المعارف الواردة للجمهور القارئ ( مجرد تصديرها )يحتل أولوية قصوى، فخشية المحررين من المحاسبة على عدم نشر خبر سبقت به بوابة إخبارية أو صحيفة أخرى، يجعلهم يسارعون بنشر المعارف والمعلومات الواردة دون السعي إلى التحقق منها بالقدر الكافي ( وهو عوار ان لم تكن جريمة مهنية واضحة) ، ناهيك طبعا عن غياب مفهوم استكمال المعلومات المعدة للنشر بالعودة إلى مصادر أرشيفية قادرة على تقديم صورة متكاملة للقارئ، فيجري الاكتفاء(هذا إن حدث يعنى) بالعودة للمصادر الحية، وهى كارثة كبرى فى ذاتها ربما اتحدث عنها لاحقا
نحن إذن امام حارس بوابة ( الصحفى او القائم بالاتصال حسب المصطلح الأكاديمي) هو نفسه تائه وخائف ومطارد، يسارع إلى نشر أية معلومة واردة خشية المحاسبة من رؤسائه مثلا (موضوع تحويل الصحفين لموظفين ده عاوز مجلدات ومصنع مناديل ورق للعياط لوحده)، هذه المسارعة تنتج طوفان من الأخبار المنشورة المتلاحقة بشكل مجزأ والتي هى متضاربة ومتناقضة في كثير من الأحيان
هى عملية تفتيت واضحة ( وغير اضطرارية أصلا) للمعارف، بانتهاج نهج الوكالات الاخبارية ( المضطرة لعملية التفكيك هذه) عبر البوابات الاخبارية (التي ليس من المفترض ان تعمل اصلا كوكالات اخبارية) والصحف اليومية ، هى حالة من التفكيك المستمر للواقع وتجزئته نحن غارقين فيها جميعا حتى النخاع، نتيجة للادارة العشوائية غير الواعية بالمهمة الاجتماعية لوسائل الاعلام بل والفروق الاساسية بين تلك الوسائل التى تفرض مناهجا متمايزة للعمل والاداء الاعلامي لاختلاف المهام والوسائط وبالتالى الرسالة الاجتماعية نظرا لتباين طبيعة الجمهور المستهدف أصلا
هذا ما يسمى بالركام الإعلامي، خاصة إذا ما أخذنا فى اعتبارنا أن عملية التفتيت هذه يترافق معها تضارب شديد، نتيجة لسرعة النشر دون التحقق من دقة الخبر والمعلومات ( وليس صحتها فقط)، ودون العودة لما نشر سابقا، ودون العودة للمصادر الصحيحة لا المصادر المتاحة ( ده ممكن ابقى اتكلم عنه لو اتكلمت فى موضوع المصادر الحية ده) ،، أضف لهذا الميل الفطرى لدى البنى آدم المصري للانشغال عما هو مهم بما هو رائج كما تحدثت هنا
هذا بالضرورة يجعل المتلقى غائبا عن القضايا الأساسية التي "يحتاج" لمتابعتها لصالح الركام الهامشي المطلوب منه أن يتابعه ويلاحقه ويظنه هو الأهم والأكثر ارتباطا بمصيره
خذ قضية جنسية والدة حازم صلاح أبو اسماعيل كنموذج: نحن نرى فى اليوم الواحد ستة أو سبعة تصريحات صادرة عن مصادر مختلفة من حملته، ومن التيار السلفي، ومنه هو شخصيا، ومن مؤيديه، ومن اللجنة العليا لانتخابات الرئاسة و ....الخ. كلها تختص بهذا الأمر مع أنه يمكن للقارئ وللصحف ببساطة أن تتجاوز عن كل هذه التصريحات، وتختار أن تنشر ما وصلت غليه القضية في النهاية، ويمكن لوزارة الداخلية ( إن أرادت) ان تراجع قاعدتها الرقمية للمعلومات -وهى قاعدة متطورة بالمناسبة- ومن خلال بحث قصير في الأرشيف الرقمى للداخلية لن يستغرق من موظف في مصلحة الأحوال المدنية التابعة للداخلية أكثر من عشر دقائق سنعرف إن كان قد أُذن لوالدة أبو اسماعيل بحمل جنسية أخرى غير المصرية أم لا، ليرتاح الجميع
ولكن من المطلوب ان نغرق جميعا في هذا الركام ولا نكف عن متابعة المباراة التى صارت للاسف مشوقة
ده كلام عام سريع كدة، عشان أبقى عملت اللى عليا وقلت اعتراف ميبرأش ذمتي بالمناسبة كمحرر صحفي موظف متورط في مسألة تسويق الركام الإخبارى رغما عنى
No comments:
Post a Comment