كانت ذكرى محفوظ تقترب وعلى ان أجد فكرة جديدة للعمل
أخبرني صديقى عن تلك المكتبة العامة التى كان يحلو لمحفوظ أن يجلس للقراءة بها يوميا
فكرت: ربما وجدت هناك طرف خيط يقودني إلى قصة مميزة، فلو لم يكن ذاك، سيظل ممكنا على أية حال كتابة قصة صحفية عن المكان نفسه وعلاقة محفوظ به وبمديريه ورواده ..فكرة فيتشر لطيف وجديد
كان الجو ربيعيا ومشمسا لكني ارتديت ثيابا ثقيلة، ووضعت قرطا لؤلؤيا صغيرًا، وأطلقت شعري إلا من حلية صغيرة، ووضعت
حقيبتي على ظهري وحملت على ذراعى معطفا اضافيا خشية ازدياد البرودة
توجهت للمكتبة التي كانت تحتل طابقا واسعا من عمارة ضخمة بحى هادئ على أطراف القاهرة
صعدت السلم الخشبي وطالعني على يسار السلم قاعة للقراءة تحوي منضدتين، نُحت فوق كرسي إحداهما تمثالا من الخشب الأسود لمحفوظ، وقد وضع ساقا فوق أخرى، وانحنى لقراءة كتاب منحوت من الخشب ذاته على المنضدة
لم يفتنى ملاحظة "ديستورشن" واضح جعل رأس محفوظ ونصف جسده العلوي أضخم من فخذيه وساقيه
وعلى المنضدة الأخرى، احتل الكرسي الخشبي نحت لشاب ينظر لشاشة اللاب توب الخشبي المنحوت أمامه على المنضدة في استغراق
اعجبتنى تلك اللمحة الفنية الذكية في التعبير عن شخصية المكتبة
توجهت للرجل الجالس على مكتب الاستقبال وقدمت له هويتي الحاملة لاسمى واسم الصحيفة، فأخبرني أن هناك سياسة للإفصاح تقتضي أن أجتاز اختبارا يعقده لي مجلس أمناء المكتبة قبل الإدلاء بأية تصريحات صحفية
كانت مفاجأة مربكة، لكنى استنتجت أن الاختبار لابد أن يتعلق بكتابات محفوظ، وقد قرأت معظمها -رغم أنى كرهته قديما من باب عناد الكبار- وستسهل قراءتي الواعية له اجتياز الاختبار، خاصة مع تواضع أتوقعة لتوقعات مجلس الأمناء بشأني، لما يعرفه الجميع من ضحالة تميز الصحفيين عادة. يكفيني إذن أن أبلي بلاءا طيبا
أخبرته باستعدادي، فقال أن علي أن أتوجه للنافذة، وأمعن النظر في حديقة المكتبة، فسيكون اختبارى متعلقا بالديكور وزينة الحدائق
ارتبكت وأخبرته أنى صحفية مختصة بالأدب، ولا علاقة لي بالديكور وفنونه. فأجاب بعجرفة: إن مجلس أمناء المكتبة (مش فاضينلي) وأنه سيتعين عليه أن يختبرني بنفسه، لهذا فهو سيختبرني فيما يجيده
كان خوفي من العودة للصحيفة خالية الوفاض أقوى من رغبتي في صفعه وتفنيد منطقه المتهاوي
انصعت واتجهت للنافذة، ليطالعني وجه حجري ضخم مخيف .... فزعت وتراجعت
ورأيت رجل المكتبة السخيف ينظر إلي مشمئزا، فتحسبت أن يكون هذا جزء من الاختبار، فتماسكت وأجبرت قدمي على العودة صوب النافذة
وجدت الوجه الحجري قد صار نحتا على جذع شجرة، وكأن يدا آدمية لم تنحته ،، بل هو وجه الشجرة نفسها .. أمعنت النظر
فهالني أن أجد أشجار الحديقة كلها قد نبتت لها وجوه
تلاشت قاعة الاطلاع، وجاء رجل المكتبة بسوط طويل يأمرني بخلع ملابسي وارتداء جلباب أبيض خفيف فضفاض
رفضت
فمسني بطرف سوطه، فوجدتني في ممر بين تلك الاشجار التي استحالت جدرانا، وعلى جسدي ذلك الجلباب الذي رفضت ارتدائه
كان أصحاب النظرات الزائغة حولي يرتدون الجلابيب نفسها، فتحت فمي لأقول للرجل أنى صحفية، وأنى هنا لغرض مهني، وأنه على أن يدعني أعود من حيث أتيت
لم يصدر عني صوت،، كان فمي محشوا بأجسام حبيبية شديدة المرارة، وكأنها حبات رمل ضخمة.
أخذت أنظف فمي منها، فكلما دفعت بعضها بلسانى وأصابعي خارجا، تكاثر ما تبقى منها في فمى وانقسم حتى يملأ جوفي من جديد
صاح صائح بأن هذا موعد جرعة العلاج للنزلاء
فتحت فمي لأعلن هويتي من جديد فلم ينثل من بين شفتي سوى التراب المرير
دفعوني في غرفة قارسة البرودة
فتحت فمي بيدي واخذت ازيح الحبيبات بأصابعى لأصرخ باسمى وسبب وجودي، وجدت الجدران تضيق والسقف يشتعل نارا ويهوي نحو وجهي، وأبصرت عيناي صورة محفوظ الباسمة الهادئة بينما ينغلق صدري بالتراب
No comments:
Post a Comment