اخرج من الميدان وانا ارتعد قلقا وخوفا. أحاول اقناع اصدقائى بمرافقتى خشية ان يتكرر الرعب الذى عايشته قبل ساعات قليلة فى تلك الليلة الطويلة التى مرت علينا بعد ان فرقتنا قوات الجيش المصحوبة بقوات الامن المركزى التى اقتحمت ميدان التحرير امس لتفريقنا بالقوة.
بدا اليوم باعثا على الامل وصلت الميدان عقب صلاة الجمعة بساعتين. قرت ان انام جيدا واذهب الى المظاهرة متاخرا استجابة للدعوة التى اعلنها ائتلاف شباب الثورة عبر الفيس بوك بالاتصام المفتوح لحين تحقق باقى المطالب التى مازال المجلس العسكرى يرجئ تنفيذها والمتمثلة فى الاسراع بمحاكمة رؤوس الفساد من رموز نظام مبارك وعلى راسهم المخلوع وعائلته وكبار كهنة عرشه (صفوت الشريف وزكريا عزمى وفتحى سرور). وحل المحليات الفاسدة واستكمال تطهير المؤسسات السيادية والاقتصادية الهامة الى جانب تفعيل المحاكمات الجادة لقتلة الشهداء والمتسببين فى اصابة العديد من الثوار بعاهات مستديمة يطيب لرومانسيتنا ان تصورها كأوسمة شرف فى مجتمع يصم كثير من المنتمين اليه الثوار. وغيرها من مطالب جمعة التطهير التى دعت اليها قوى سياسية عدة .
كان الميدان ممتلئا ولم تكن لقوة سياسية بعينها كما لاحظت صديقتى هبة نجيب حضورا مميزا عما سواها من قوى. انتشرت المنصات الاذاعية فى مختلف ارجاء الميدان ووقفنا بجوار ممول الثورة المزعوم (كنتاكى) لفترة قبل ان نتحرك لنحتسى القهوة فى أحد المقاهى المجاورة. مع عودتنا للميدان وجدنا بعض من المتظاهرين يتحدثون عن عشر ضباط جيش وقفوا على أحد المنصات الاذاعية ( المنصة التابعة لجماعة الاخوان المسلمين) وتحدثوا الى جمهور الميدان بعد ان ابرزوا هوياتم العسكرية ليؤكدوا للمتظاهرين صحة انتسابهم للجيش المصرى. خاصة بعد ان اذاع التلفزيون المصرى تنويهات عدة موجهة من قيادة المجلس الاعلى للقوات المسلحة ( بحسب زملاء بالميدان) تتهم كل من يظهر بالزى العسكرى بانتحال صفة الانتماء للجيش المصرى. سالت بعض من استمعوا الى كلمة ضباط الجيش العشرة . واكد لى العديدون ان الضباط قادوا الهتافين القائلين (الشعب يريد اسقاط المشير والشعب يريد تطهير الجيش). فيما هتف المتظاهرون (الشعب والجيش ايد واحدة) وهو الهتاف التقليدى الذى يتردد منذ ظهر الجيش فى شوارع القاهرة مساء جمعة الغضب ( الثامن والعشرين من يناير الماضى).
ظللت واصدقائى بالميدان الى ان اعلن عن توجه مظاهرة يقودها شباب من الاخوان المسلمين نحو سفارة اسرائيل فى الوقت الذى كانت توزع علينا فيه وزقة تدعو للمشاركة فى الانتفاضة الفلسطينية الثالثة المقرر لها الخامس عشر من مايو المقبل ( الموافق لذكرى انتزاع الارض الفلسطينية واعلان دولة اسرائيل) مما حمس عدد غير قليل من المتظاهرين لترك المظاهرة والاعتصام المقرر قبل اسبوع للانضمام لتحرك نحو السفارة الاسرئيلية ووسط استنكارى لتوقيت ها التحرك وتشككى المعلن فى جدواه غادر صديقين ليلحقا بالمظاهرة وجلست انتظر والباقين موعد بدء الاعتصام المقرر فيما كان الاعداد تتناقص تدريجيا حتى انكمشنا الى ما يقل عن اربعة الاف متظاهرة بحلول منتصف الليل وسط اختفاء تام لشباب ائتلاف الثورة ( الذين اعتصمت وزملائى استجابة لاعلانهم الذى اتضح لاحقا انه سحبوه) ولغيرهم من شباب الحركات السياسية المختلفة الرسمية منها والمستقلة . ومع ازدياد حركة الدراجات البخارية المستفزة التى عاودت الظهور هذا الاسبوع مكررة تحرشها بالمتظاهرين فضل اصدقائى من الذكور ان ننتقل جميعا الى ممنتصف الميدان حرصا على وعلى صديقتى المرافقة لى وسط اتصالات من الخارج تاحدثنا عن اختطاف مزعزم لقائد بالشرطة العسكرية وصدامات لم نشهدها بيسن الشرطة العسكرية والمعتصمين، وانباء اخرى عن اقتراب قطعان من البلطجية من الميدان للهجوم علينا.
فى هذه الاجواء المتوترة جلسنا على سور الكعكة الحجرية نمزح ونزجى الوقت ونردد الهتافات المنادية باستكمال اسقاط النظام مع غيرنا من المعتصمين الساهرين، وبعد دقائق من انتصاف الليل تزايدت وتيرة الاتصالات القلقة من اصدقاء خارج الميدان يحذروننا من البقاء ويطالبوننا بقلق بالعودة لمنازلنا قبل حلول موعد حظر التجول الا اننا آثرنا جميعا الالتزام بالاعتصام وعدم التخلى عن المعتصمين الآخرين الذين شعروا بواجب اخلاقى فى حماية الضباط الذين انضموا لاعتصام مطالبين بتطهير المؤسسة التى ينتمون اليها من فساد تواتر الحديث عنه بين مختلف طبقات الشعب المصرى منذ ما يسبق قيام ثورة الخامس والعشرين من يناير.
فى الواحدة صباحا سيارات الامن المركزى تحوم حولنا، ليست سيارة واحدة هذه المرة كما كانت فى الاعتصام الذى شاركت به مع اصدقائ للمطالبة برحيل حكومة أحمد شفيق. بل ثلاث سيارات تلف وتدور فتأتى حينا من شارع القصر العينى فينطلق نحوها الشباب هاتفين "ارجع ارجع" فتدور حولنا محاولة الدخول من الشارع الصغير المجاور لمسجد عمر مكرم من جهة ميدان سيمون بوليفار. ..التوتر يزداد ونحاول التغلب عليه بالمزاح والهتاف يهتف شاب: "الشرطة العسكرية جاية كتير من ناحية المتحف" التفت لانظر ما يحدث وراء ظهرى تماما ويطمئننى اصدقاء: "متخافيش الجيش مش هيضربنا" ابتسم لهم وبرأسى تتردد ذكرى ليلة اعتصام مجلس لوزراء الذى لاحقتنا فيه قوات الجيش الخاصة بالكرابيج والعصى المكهربة. اتصال من صديقة بعدها بدقائق وفى حوالى الثالثة الا الربع :" عزة فى عربيات مدرعة بتاعة جيش كتير جاية من مدينة نصر عليكم". اطمئنها قائلة :" مفيش حاجة متخافيش معتقدش الجيش باعت قوات تبيدنا احنا مش صهاينة يعنى تلاقيهم رايحين يأمنوا سفارة اسرائيل عشان موضوع الالتزام بالمعاهدات". انهى المكالمة واعاود الجلوس ومازالت صفارات الانذار البدائية تتردد لتنتزع نى اصدقائى الذين يجرون بين كل جهة واخرى من مداخل الميدان المختلفة للمشاركة فى تامينها وسط تاكيدات مشددة من كل منهم لى ولصديقتى: " خليكم انتم نا محدش يتحرك مش ناقصين قلق عليكم" انصاع واجلس فى موضعى وانا ارقب تنقلهم وجريهم واتحين عودتهم للاطمئنان عليهم. الى أن وجدنا صفوفا من قوات الجيش تدخل الميدان من جهات شارع قصر العينى والشارع الصغير المجاور لمسجد عمر مكرم ومن جهة عبد المنعم رياض. امسكت بيد صديقتى وانا احاول ان اجمع حولى اصدقائنا الاخرين، انتقلت انا وهى الى داخل الكعكة الحجرية ولحق بنا صديقنا محمد مصطفى ممسكا بيدى بينما امسكت انا بهبة نجيب بيدى الاخرى ليقتادنا الى خارج الميدان ويخفينا فى مدخل احدى لعمارات ليعود هو الى الداخل وسط هتافى المحتج.
كانت الامور تشتعل بسرعة قطعان الشرطة لعسكرية وقوات الجيش التى لا اعرف ماهيتها بالضبط تحرك نحو الكعكة الحجرية لتحاصرها والكل بداخلها نتقل انا وصديقتى لحتماء بسطح احدى العمارات ليتسنى لنا مراقبة ما يحدث، كان الصوت باسفل عال ونحن على السلالم نن\تنقل ن طابق لىخر كلما استشعرنا وقع الاقدام يقترب.. الى ان وصلنا الى السطح ومن هناك بدا صوت اطلاق النيران يتعالى ، كانت النيران كثيفة والصوت لا يوقف ابدا سقط قلبى بين قدمى شعرت به هناك خارج جسدى بانتظار قدم رحيمة تطاة وتخلصنى من الرعب الذى تملكنى. انا هنا بمنتهى الجبن اختبئ بينما م جميعا هناك يواجهون الرصاص دفاعا عن حقهم فى الاعتصام السلمى، عن شرفهم الذى ربطوه بالحفاظ على حياة اولئك الذين وضعوا حياتهم بين ايديهم من ضباط الجيش.
تمالكت خوفى ونهضت الى شرفة قريبة لاتابع ما يجرى، كان اطلاق النار المستمر قد صار غير محتمل، على الارض هناك وجدت جثة كومة فى وسط المديان وجنود الجيش يكسرون خيمتين وحيدتين اقامهما بعض المعتصمين فيما رفض الباقون اقامة اى خيام درءا للشائعات التى تطال اخلاق من يشارك بالاعتصام من فتيات وشبان. .. كان المشهد على الارض مفزعا قوات الجيش تطارد الشبان وتضرب بعضهم بعنف وتمسك ببعضهم الاخر مقتادة اياه الى المدرعات التى احاطت بالكعكة الحجرية، كان الشباب قد توقفوا عن هتاف سلمية سلمية والجيش والشعب ايد واحدة الضين كنت اسمعهما اثناء هروبى على سلالم العمارة القديمة كانت المطاردات داخل الميدان على اشدها والضرب المبرح للمعتصمين ايضا، وتصاعدت رائحة قنابل الغاوز التى عرفت لاحقا انها القيت من قبل قوات الامن المركزى التى التحقت بقوات الجيش للمشاركة فى فض الاعتصام . عدت لاجلس بعد ان فقدت القدرة على السيطرة على اعصابى تماما تناولت الكمبيوتر المحمول لواحدة ممن لحقوا بنا على سطح العمارة وحاولت ان ارسل بعض المشاهدات الى متابعى تويتر ليصدمنى مدى اتساع حجم التخوين الذى ووجه به المعتصمون !!. تركت الجهاز بعد ان زاد شعورى بالخذلان من ارتعادى وخوفى على اصدقائى المتناثرين باسفل والذين لم اعد قادرة على تمييز ايهم فى الميدان وسط اصوات النيران الكثيفة.
استمر الوضع على هذا الحال حتى تجاوزت الساعة الخامسة بقليل ولان الله رحيم كان الاتف المحمول منجاتى عندما اتصلوا بى واحدا تلو الاخر ليطمئنونى عليهم ويطمئنوا على فوقفت اتابع المشهد باسفل وقد خف ذعرى بعض الشئ. كانت طلقات الرصاص الان تستهدف الواقفين على السطح، فتراجعت الى الخلف قليلا لاتابع ما يجرى بعيدا عن مدى الرصاص (او هكذا اظن) لاجد جنود الجيش قد جلسوا على ارض الميدان وكان بهم نية للاتصام وبدات مجموعة منهم فى مد الاسلاك الشائكة داخل الكعكة الحجرية بغية منع المتظاهرين عن الوصول اليها فى صباح اليوم التالى. الا ان اطلاق النيران عاد بقوة وتواصل بعد نحو عشر دقائق من التوقف فى شارعى باب الللوق وطلعت حرب. ولكن الاطلاق توقف بعد فترة (قبل السادسة بقليل) لتنسحب قوات الجيش تاركة خلفها اسلاكها الشائكة وبقايا مظاريف الرصاصات التى اطلقت على المعتصمين المسالمين. مصطحبة معها تلك الجثة المكومة فى منتصف الميدان ولتى رايتها بوضوح اثناء دخولها عربة الاسعاف لاتبين انها لشاب يرتدى الزى العسكرى.
وفى طريقها للخارج لم تنس المدرعات ان تلق لنا بتحيتها الاخيرة عندما اندفعت بقوة فى محاولة للاطاحة باجساد عدد من المتظاهرين الذين عاودوا الاحتشاد داخل الميدان. الا ان الله سلم وخرجت المدرعات تاركة لنا ذكرى واحدة من احلك ليالى الثورة المصرية. لا لكم الرعب الذى شهدناه فيها والقلتى الذين بلغ تعدادهم سبعة حسب رؤى شهود العيان. بل لتلك الحالة من التخوين والاتهامات التى طالتنا وكل ذنبنا اننا آثرنا الشرف (ولو كنا مضللين) على النوم فى البيوت .
1 comment:
هذه الشهادة لها قيمتها الكبيرة جدا عندي .. لكن هناك نقطة في وسط الكلام لابد من توضيحها ..
لا الإخوان ولا شباب الإخوان تحركوا ناحية السفارة ..
من تحرك نحو السفارة الإسرائيلية مجموعة من الشباب من مختلف التيارات السياسية ، وعلى حد علمي لم يكن بينهم عدد يذكر من شباب الإخوان المسلمين
Post a Comment