Tuesday, February 12, 2013

مترو القاهرة **



عندما اطمأنت أن الأجساد المندفعة في الاتجاهين المتعارضين على الرصيف الضيق قد انشغلت أعينها عن التحديق صوبهما، جذبت وجه الفتى نحوها واختطفت قبلة سريعة من تلك المنطقة ما بين الشفتين والخد الأيسر، لينفصل عنها راضيا ويقفز إلى الداخل من الباب القريب وتستمر هي في طريقها للعربة التالية منادية على "هولز يعطر الفم ويروق الدم وبجنيه واحد بس"

النداءات السقيمة تتكرر، عشرات البائعين يرددون ذات العبارات المسجوعة في ندائهم على بضائع لا يبدو أن أحدا يريدها. لكن إصرارهم كبضائعهم .. راكد ثابت لا ينفذ.

نهاية اليوم، والمترو الآن فارغ نسبيا.. امرأتان أسيويتان، إحداهما نحيفة ذات وجه متغضن فاتح اللون يحمل بقايا جمال غابر، والثانية  ممتلئة ذات وجه ذكوري قاس وبشرة تشي بالشباب، احتلتا وحدهما المقعد العريض الذي يسع أربعة أفراد.
العجوز منهما تنخرط في مونولوج طويل تتكلم وتتكلم، ولا تبال بأن جارتها الوحيدة التي تفهم لغتها غابت في نوم عميق، على الأرض أمامهما ترتص أربعة حقائب قماشية ضخمة ملونة بورود حمراء وسط فضاء أسود، ممتلئة عن آخرها ببضائع واردة من مصانع مدينة العاشر من رمضان التي تحتلها عمالة أسيوية ويجري تسويق بضائعها باعتبارها وارد الصين.

المراهقة التي يحمل وجهها بقايا نشوة القبلة المسروقة، تلقى بحلواها جذلة على أفخاذ الركاب، مواصلة نداءها الرث الذي ارتفع منها منتشيا.

من محطة السادات يصعد ثلاثة شبان ملتحين، تصحبهم رائحة البول التي صارت مميزة للمحطة منذ إغلاق معظم مداخلها في نوفمبر عقب الإعلان الدستوري  للرئيس، قهقهاتهم تتداخل مع صوت العجوز المنخرطة في حوارها الوهمي.

يرتفع صوت أوسط الملتحين سنًا: "فضلت ساكت لحد ما الميكروباص طلع وخرجنا برا القاهرة خالص وقلتله اطفى الأغاني ياسطى، ولما عاند قلتله خلاص.. سيب الأغاني واديني فلوسي ونزلني هنا. مكنش قدامه حل إلا إنه يطفي الأغاني ما هو مش هيلاقي حد يركب ويدفع ع الصحراوي".. ترتفع القهقهات ويحيى الملتحيين  الاثنين زميلهما الثالث على ذكائه وفطنته.
يلتحم صوت ضحكاتهم بضحكة عصبية خاطفة للعجوز الأسيوية ...تطلقها وتعاود رواية ما يبدو أنه موقف طريف ما لصاحبتها النائمة، تقطع الكلام فجأة وتلتفت نحو صاحبتها النائمة وتصيح بغضب، ثم تعاود النظر في الفراغ وتستكمل منولوجها الطويل.
تتنبه صاحبتها على اصطدام عبوة الحلوى الرخيصة التي ألقتها المراهقة فوق فخذها، وصاحبتها العجوز تستكمل الحكي ليتغير إيقاع المنولوج صعودا وهبوطا على صوت الهمهمات التي تتظاهر ذات الوجه الذكوري النائمة  من خلالها بالمتابعة.

يصعد طفل في السادسة أو السابعة في يده كيس بلاستيكي به بعض عبوات المناديل الورقية، ينخرط مراهقون في آخر العربة في معابثته، يشجعونه على الشقلبة على أرض المترو، يجدها الطفل المتسول فرصة لتناسي مهمته لبعض الوقت، وينخرط في اللعب متدحرجا على أرض العربة مطلقا ضحكات عالية، يحفها صوت المراهقين المحتفي بالسباب البذئ. يملون لعبتهم ضئيلة الحجم بعد محطتين، فيشيعه أحدهم بركلة قاسية في ظهره فيصدر الطفل صوتا حلقيا منفرا بينما يطير جسده بفعل الركلة في الهواء إلى خارج العربة.

ينضم رابع للملتحين الثلاثة، يتخذ الحديث منحى سياسي
يتحول المونولوج الأسيوي الى ديالوج صاخب بين الاثنتين، في اللحظة التي بدأت فيها العجوز بمهاجمة شئ أو شخص ما، بينما تمترست ذات الوجه الذكوري في جانب الدفاع.
المراهقة تلملم حلواها في سخط ، ومراهقو آخر العربة يتبارون في السباب، والملتحون يواصلون حديث السياسية،
تلتحم الأصوات وتلفظني كما الركلة خارج الباب المفتوح.  

** نشرت بصيحفة"المدن" الالكترونية الصادرة في لبنان

No comments: